Friday, October 15, 2010

'ارض الست الوالدة'

In Alquds Arabi today:

حرية الاعلام في مصر بين 'جمهورية الطماطم' و'مملكة سليمان'
خالد الشامي
2010-10-14


فقط الذين يفهمون حركة التاريخ في مصر يدركون اهمية الحرب التي يشنها النظام الحاكم حاليا ضد حرية الاعلام. لكن لا يحتاج المرء الى ان يكون اكثر من نصف مثقف، اونصف قارئ، بل ونصف انسان لتصفعه الخيبة كلما تأمل سياقها المحلي او الاقليمي.
وسواء كان 'تمديدا' او 'توريثا'، فانه يبقى عنوانا لعملية جراحية مؤلمة، يستعد النظام المصري لخوضها. ولتحسين فرص نجاحها، بدا له حتميا شن سلسلة اجراءات قمعية، شملت صحفا وفضائيات ووسائل اتصالات تكنولوجية مثل الرسائل النصية لتنتشر اجواء من الرعب والارهاب في الساحة الاعلامية، وتنتصب لافتة 'ممنوع الاقتراب والتصوير' فوق مناطق سياسية حرجة بعينها.
وتأتي هذه الاجراءات في سياق اوسع من ممارسات حكومية لاتليق بـ'جمهورية طماطم' ـ على سبيل التكريم اذ انها اصبحت اغلى من الموز ـ كان من ابرزها التحايل على حكم المحكمة الادارية العليا بابطال عقد مشروع 'مدينتي' السكني الفخم، وانتهاء بقرار منع الفضائيات من استخدام تقنيات البث المباشر دون ترخيص اضافي، ما يعني عمليا تغييب احداث وشخصيات بعينها عن الشاشات.
وجاء هذا القرار بعد بث فضائيات مظاهرة ميدان عابدين المشهورة احياء لذكرى وفاة الزعيم احمد عرابي، التي ردد فيها المتظاهرون الى جانب شعارات اخرى، قولته المأثورة'لقد خلقنا الله احرارا ولن نورث او نستعبد بعد اليوم'.

وهكذا تتضح اكثر الصورة، وخاصة الارتباط بين 'جمهورية الطماطم' و'المملكة' التي يخططون لاقامتها في مصر، ويريدون ان يساق الشعب المصري اليها سوقا.
وليس اقتراب الانتخابات ومعها مشروع التوريث العامل الوحيد في توقيت هذه الحرب غير النظيفة والمخالفة لنصوص معروفة في الدستور، حيث انها جاءت ايضا بعد ان اقترب الاعلام الخاص مؤخرا من منطقة محظورة الا وهي مافيا الاراضي في اعقاب الاسئلة المشروعة التي اثيرت حول ملف تخصيص الاراضي وورود اسماء اقارب لاكبر المسؤولين في البلاد ضمن قائمة الذين حصلوا على عشرات بل ومئات الالاف من الافدنة في افضل المواقع مثل مدينة الشيخ زايد قرب القاهرة والساحل الشمالي وغيرهما.
ونحن هنا لانتهم احدا الا اننا نرى ان المخالفة التي كشفها القضاء بل وادان الحكومة بسببها تستوجب فتح كل الملفات، ليعرف الشعب المصري مدى قانونية تصرف هذا النظام في اراضي الدولة، وان كان يتعامل معها وكأنها 'ارض الست الوالدة' حسب تعبير المهندس حسب الله الكفراوي وزير الاسكان الاسبق، وهو المعروف بسجله النظيف، بينما قدم اكثر من عشرين نائبا طلبا للنائب العام للتحقيق مع خليفته محمد ابراهيم سليمان بتهمة اهدار اموال الدولة، قبل ان يدركوا انه يتمتع بـ'حصانة خاصة'. وعلى الرغم من كل الخوف الانساني الطبيعي الذي اصبح يملأ الاثير في مصر حاليا، بفعل نظرية 'رأس الذئب الطائر'، ومع تحسس كل كاتب او اعلامي على رقبته في ظل نفوذ متزايد لرجال الاعمال المستفيدين من استمرار 'مملكة سليمان' في الحكم الى الابد، فان هذه الحرب لن تنجح في تحقيق اهدافها لأنها تعادي لغة العصر ومعطياته وتناقض مسار التاريخ.

ان هامش حرية الاعلام الذي اكتسبه الشعب المصري بدمه قبل عرقه، ويناضل مثقفون حقيقيون اليوم للحفاظ عليه هو نتاج لقرنين كاملين من الكفاح لبناء الدولة الحديثة على اسس من التنوير والحرية، ولايمكن شطبه بجرة قلم.
وبمقاييس عالمنا العربي البائس، هو انجاز ثقافي انساني تاريخي دون مبالغة، بالنظر الى وجود تراث قديم قدم التاريخ في مجتمع نهري ابوي، لايخلو من رواسب معتقدات بأن الفرعون مازال ينظم الري الذي هو سبب الحياة، بل انه كان يأتي بمياه النيل من السماء اصلا، فاستحق لقب الاله، حسب تفسير جمال حمدان.
كما ان الواقع السياسي في مصر لن يسمح بـ'توريث هادئ' كما حدث في بلاد اخرى.
واذا كان من دلالة سياسية هنا، فان الذين يقفون وراء هذه الحرب لم يتعلموا ما يكفي من الدروس من الرئيس مبارك الذي عرف جيدا معنى اغلاق النوافذ وعواقبه. بل ان هكذا قرارات تثير اسئلة صعبة حول مدى تآكل العصا التي تمنع انطلاق جني التغيير، ومدى 'حكمة الحكام الجدد' في التعامل مع وضع بهذا التعقيد.

وفي مواجهة هكذا حرب ضد هامش حرية الاعلام والكلام، الذي اصبح جزءا من الهوية الوطنية، وحقا وانجازا للكاتب المصري، والفلاح الفصيح، يصبح السكوت ممنوعا.
بل ان معركة حرية الاعلام اصبحت نفسها معركة مصر ومستقبلها، اذ انها ليست في النهاية سوى انعكاس لازمات النظام والمجتمع والصحافة.
اما النظام الذي لايقرأ التاريخ، فكان لابد عليه ان يذكر ان الرئيس السادات سبق ان استخدم لافتة 'الحفاظ على الوحدة الوطنية' لقمع الصحافة واعتقال المفكرين فيما عرف بـ'باحداث الزاوية الحمراء' سنة 1981، وسرعان ما انكشفت الخدعة. صحيح ان الظرف التاريخي مختلف الآن، وان الاحتقان الطائفي زاد لدرجة غير مسبوقة، الا ان الاعلام لم يخترع تصريحات الانبا بيشوي، او استفزازات بعض غلاة السلفيين. والاجدى ان يبحث النظام عن اسباب الاحتقان ويعالجها بدلا من اطفاء النور وتركها تكبر في الظلام.
المشكلة الحقيقية انما تكمن في العقلية التي تصور للنظام ان استئجار شركة 'بيل بوتينغر' البريطانية لتلميع صورته في الخارج سوف يغنيه عن اتخاذ قرارات اصلاحية حقيقية، وان منع الفضائيات من نقل الصور الاحداث سوف يحسن الاوضاع في الداخل.
ودون مغادرة الترفع عن منازلة ثقافة شعوبية عربية تستقوي على كل شئ الا انظمة القمع، وعلى خلاف بلاد امتهنت الصمت حتى امتهنها الصمت، فان قصف الاقلام، واغلاق الصحف، ومحاصرة الافكار، واسكات الاصوات الحرة كان دائما نذير شؤم في الحياة السياسية في مصر.
ولايمكن تذكر نهاية حكم الرئيس الراحل انور السادات دون ذكر اغلاق صحيفة الشعب المعارضة، واعتقال الكتاب والمفكرين ونقل الصحافيين المشاغبين الى شركة باتا للاحذية. كما ارتبطت نهاية حكم عبد الناصر باحداث مجزرة القضاء، وقمع مظاهرات الطلاب.

وهكذا فان المثقف الحقيقي في اي مكان مطالب اليوم بسن قلمه ضد هذه الحرب، ولايجرمنه ان بعض العاملين في وسائل الاعلام العربية تفرغوا للعمل ك 'مندوبي مبيعات' لترويج نتاج بلادهم الدرامي او الادبي في مواجهة 'الهيمنة المصرية' وما الى تلك المصطلحات في قاموس من الكراهية، بينما لايتورع اخرون عن الترويج لمشروع التوريث و'اصلاحاته' التي لم يعلنها حتى صاحبها بعد، في حال وجودها اصلا بينما هم يدافعون في الحقيقة عن مصالحهم الشخصية المرتبطة بنجاحه.
وبين هؤلاء واولئك، وبين الاحقاد او الانانية والمصالح الضيقة والعقول الاضيق، او على احسن الاحوال الجهل والفشل الذريع في فهم الشخصية المصرية وكيفية التعامل مع حساسياتها، تقف حرية الاعلام في مصر اليوم وحيدة في معركتها، رغم انها اصبحت تمثل الامل الوحيد الباقي ليس لمصر وحدها بل لامة باكملها من ورائها ، كانت وستبقى دائما قاطرتها وبوصلتها، شاء من شاء وابى من ابى.

No comments: