In Alquds Arabi today:
عن معركة 'الدستور': كيف يسرقون منا الكلمة ولماذا ارتبك النظام؟
د. يحيى مصطفى كامل
2010-10-11
بمزيدٍ من الألم أكتب هذه السطور، وبفائضٍ من الفخر أصيغ أفكاري إزاء صمود الزملاء في جريدة 'الدستور' وموقفهم البطولي.
للحق، كنت أتنبأ وأنتظر أن أكتبها مذ اشترى د. السيد البدوي الجريدة، إلا أنني لم أتوقع السرعة التي حيكت بها المؤامرة ولا خيبتها وانعدام حبكتها.
أمام معركة 'الدستور' يحار رجل الشارع العادي، فهو يرى جريدة رائجة كانت تطرح قضايا ساخنة تهمه وتناقش أوضاعة بصدقٍ وحرارةٍ وغضب؛ ليس ذلك وحسب، وإنما يصمد رئيس تحريرها في معركة مع مؤسسة الرئاسة، فكيف تتعثر، وما هذا الأسلوب، ومن هؤلاء المشار إليهم بـ'ملاك الجريدة الجدد'؟!
للحقيقة، أنا لا أرى أي داعٍ للعجب (وإن كنت أتفهم وأتعاطف مع مشاعر الأسف) ولعل أوضح وأصدق تفسير لما يحدث يكمن في النفاذ عبر فوضى القاهرة وزحامها وضجيجها وشائعاتها وحكاياها إلى طبيعة النظام الحاكم الرابض على أنفاس مصر وإلى طبيعة المرحلة التي يعيشها. النظام في مصر يعيش أزمةً عميقة! بدايةٌ لا بد من التأكيد عليها.
منذ عهد السادات والنظام الحاكم تترسخ قاعدته على تحالفٍ نما وتغول بين مؤسسةٍ أمنيةٍ متضخمة أبداً وضارية من جهة، ومؤسسات المال الأجنبي واللصوص ورجال الأعمال الجدد صنائع النظام من جهة أخرى، وإذ لم يمهل القدر الرئيس المؤمن حتى يحقق مشروعه تماماً، حين نادى بأخلاق القرية، فإن الرئيس مبارك تدارك ذلك بصورة مبهرة.
ثلاثون سنة كانت كافية لتحطيم مشروع الدولة الحديثة بحيث لم يتبق للمسمى من مضمون ولم يعد يشير سوى لهيكل هش لكيانٍ مترهل يدار كالقرية (أو العزبة بصورةٍ أدق) لصاحبها وولي نعمتها الرئيس وعائلته الذهبية التي اختزلت كافة الصلاحيات والسلطات؛ ولما كانت تلك التركيبة الحاكمة لا تؤمن بالشعب فقد وجدت دعامتها ومسوغ بقائها في الانسياق التام للمشروع الأمريكي والتواطؤ مع اسرائيل، فالنظام تارةً يقوم بدور العراب لما يطلق عليها مفاوضات هي في حقيقتها إملاءات بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية، وتارةً يقوم بدور 'الفتوة'، كل ذلك طبعاً بهدف تسوية كل القضايا العربية وتسليم المنطقة لإسرائيل تسليم مفتاح.
قد يسأل رجل طيب وساذج:'فأين المعارضة؟' لأجيبه بأن أحزابها الرسمية مدجنة تماماً وأليفة و'شيك' مثل معارضة د. السيد البدوي المالك الجديد للدستور، أو أنها من نوعية الإخوان الذين يحتكرون الشارع مكتفين 'بالحسبنة'عليهم وبلعبة القط والفأر الأبدية التي يلعبونها مع النظام ولا يفهمها أحد!...ومن نافل الذكر أن كل ذلك يتم بموافقة الأمن الذي يحكم قبضةً فولاذية على مداخل ومخارج الهواء.
غير أن طبائع التاريخ والجغرافيا تأبى على بلد بحجم مصر أن يحكم علناً بهذه الأساليب الوحشية المتبلدة التي تنتمي للعصور الوسطى، كما أن السيد الأمريكي لا يستطيع أن يسوقهم داخلياً وهم يتعهدون المتظاهرين علناً أمام وسائل الإعلام ضرباً وسحلاً، وقد لا يعدم الأمر مسؤولاً أمريكياً يوبخهم بنصف تكشيرة لائماً:'كده شكلكم وحش قوي... فكوها شوية.
فماذا يفعل النظام؟
بالطبع 'يفكها ويبحبحها شويتين'.
إذ لا يضير النظام أن يسمح بهامشٍ من الحرية لكي ينفس الناس قليلاً عما في صدورهم، من منطلق أن هذا 'النباح' لن يؤذي أو يؤدي إلى أية حركة في غياب التنظيم السياسي.
'ما هذا الجمال! إذن فهي محبوكة بحيث لا تسرب نقطة مياه واحدة؟'. تماماً، لولا أن اعترضت هذا البرنامج شبه المحكم عدة مشاكل لم تكن في الحسبان.
أولها نابعٌ من فقرٍ لغوي يتوج جهلاً عاماً وعميقاً لدى النظام؛ فأفراده ومديروه لم يعرفوا من اللغة العربية سوى: حكم يحكم حكماً...ضرب يضرب ضرباً...جلد يجلد جلداً... ولم يعلموا أن معجم العربية ولسان العرب يحتوي على كلماتٍ مثل: مرض يمرض مرضاً...مات يموت موتاً...نفق ينفق نفوقا.
لقد داهم مرض الرئيس المفاجئ المؤسسة حيث لم تكن خططهم قد اختمرت ونضجت بعد، مما سبب لها ارتباكاً عميقاً.
أما ثاني مشكلة فتكمن في أن الناس اعتادت هذه الحرية، وتحت ضغوط الحياة اليومية التي لم تعد تطاق عادت إليها ثقافة الاعتصام والاحتجاج والعمل الجماعي، وهذا ما يخشاه النظام ولا يمكن أن يسمح به، خاصةً الآن... ولا يمثل المعارضة الجادة الجديدة أفضل من جريدة 'الدستور'، فهي جريدة لم تراعِ الخطوط الحمراء ولم تعترف بها، كما أن ضمائر كتابها واحترامهم لذاتهم ومهنتهم ليست للبيع...أما ابراهيم عيسى، فإن ذلك اللي 'مايتسماش ما بيتهدش' فقد سبب صداعاً للنظام ولا سيما أنه لم يتعلم الدرس منذ معركة صحة الرئيس. الخلاصة أن النظام مرتبك ويحاول بسرعة أن ينظم ويهندس انتقال السلطة بما يضمن مصالح جمعية المنتفعين ويرضي السيد الأمريكي ويطمئن الكفيل الاسرائيلي، مؤكداً سيطرة المؤسسة على كل مقاليد الأمور... وإلى الجحيم بالقشرة الحضارية الديمقراطية، فهذه يمكن إعادة تلميعها بعد أن يتم المراد وتستقر لهم الأمور.
فماذا يفعلون إذن؟
هنا ثالث المشاكل...إذ يبدو أن أحدهم أشار على النظام بأن يغير من أساليبه الفجة ليصبح'مودرن' ويلعب مع الجريدة نفس اللعبة التي لعبها السادات حين أكل اليسار باليمين الإسلامي، فأعطوا الإشارة لشخصٍ يدعي المعارضة من باب الوجاهة لشراء الجريدة وتصفيتها من الداخل بركن محرريها والاستغناء عنهم واحداً وراء الآخر... ولكم أن تشاهدوا معي وتضحكوا يا سادة على هذا النظام الذي ينتمي فكراً وطبيعةً وأسلوباً إلى عهد المماليك، وهو يحاول أن يلعب لعبة القوة الناعمة، حيث قام المنفذون بالاستيلاء على الجريدة بمنتهى الفظاظة فيما يشبه القرصنة والسطو المسلح تحت عدسات مصوري الجريدة... يا لها من مهزلة.
مما أدى إلى رابع مشكلة، ألا وهي الفضيحة الإعلامية التي لحقت بمنفذي المخطط وبالنظام، حيث لا يحتاج الأمر إلى عبقرية لترى أصابعهم الغليظة وراء كل ذلك...
بمزيدٍ من المرارة والغضب أكتب لكي يفهم الجميع أبعاد هذه المؤامرة وما تعنيه لمستقبل الحريات، إذ لا شك لدي في أن الأيام المقبلة ستشهد قدراً غير ضئيلٍ من القسوة والعنف...
لقد سرقوا قوتنا وكرامتنا وحريتنا.. ضيعوا ماضينا وأهدروا حاضرنا، وها هم يكيدون للاستيلاء على مستقبلنا، ثم لم يكفهم كل ذلك حتى استخسروا فينا بضعة سطورٍ فإذا بهم يسرقونها لكي تختنق الكلمة في صدورنا.
لا أجد ختاماً أفضل من تلك الكلمات المقتضبة التي لا تفي بعمق المشاعر:
تحية إلى كل الصامدين من الزملاء في 'الدستور'...
تحية حتى إلى أولئك الذين سيضعفون تحت ضغط العوز والظروف لأن قلوبهم مع الحق وحتماً سيفيئون.
تحية إلى كل من آزرنا وتألم لألمنا لأنه أنسانٌ حقيقي...
طبيب وكاتب في صحيفة 'الدستور' المصرية
No comments:
Post a Comment